فصل: ذكر وقعة الفراض:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة اثنتي عشرة:

.ذكر مسير خالد بن الوليد إلى العراق وصلح الحيرة:

في هذه السنة في المحرم منها أرسل أبو بكر إلى خالد بن الوليد وهو باليمامة يأمره بالمسير إلى العراق، وقيل: بل قدم المدينة من اليمامة فسيره أبو بكر إلى العراق فسار حتى نزل ببانقيا وباروسما وأليس وصالحه أهلها. وكان الذي صالحه عليها ابن صلوبا على عشرة آلاف دينار سوى حرزة كسرى، وكانت على كل رأس أربعة دراهم، وأخذ منهم الجزية. ثم سار حتى نزل الحيرة فخرج إليه أشرافها مع إياس بن قبيصة الطائي، وكان أميراً عليها بعد النعمان بن المنذر، فدعاهم خالد إلى الإسلام أو الجزية أو المحاربة، فاختاروا الجزية، فصالحهم على تسعين ألف درهم، فكانت أول جزية أخذت من الفرس في الإسلام هي والقريات التي صالح عليها.
وقيل: إنما أمره أبو بكر أن يبدأ بالأبلة، وكتب إلى عياض بن غنم أن يقصد العراق ويبدأ بالمصيخ ويدخل العراق من أعلاه ويسير حتى يلقى خالداً، وكان المثنى بن حارثة الشيباني قد استأذن أبا بكر أن يغزو بالعراق فأذن له، فكان يغزوهم قبل قدوم خالد، وأمر أبو بكر خالداً وعياضاً أن يستنفرا من قاتل أهل الردة وأن لا يغزون معهما مرتد، ففعلا وكتبا إليه يستمدانه، فأمد خالداً بالقعقاع بن عمرو التميمي، فقيل له: أتمده برجل واحد؟ فقال: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا. وأمد عياضاً بعبد بن غوث الحميري. وكتب أبو بكر إلى المثنى وحرملة ومعذور وسلمى أن يلحقوا بخالد بالأبلة. فقدم خالد ومعه عشرة آلاف مقاتل، وكان مع المثنى وأصحابه ثمانية آلاف.
ولما قدم خالد فرق جنده ثلاث فرق ولم يحملهم على طريق واحد، على مقدمته المثنى وبعده عدي بن حاتم وجاء خالد بعدهما، ووعدهما الحفير ليصادموا عدوهم، وكان ذلك الفرج أعظم فروج فارس وأشدها شوكة، فكان صاحبه أسوار اسمه هرمز، فكان يحارب العرب في البر والهند في البحر. فلما سمع هرمز بهم كتب إلى أردشير الملك بالخبر، وتعجل هو إلى الكواظم في سرعان أصحابه ليتلقى خالداً، فسمع أنهم تواعدوا الحفير، فسبقهم إليه ونزل به وجعل على مقدمته قباذ وأنوشجان، وكانا من أولاد أردشير الأكبر، واقترنوا في السلاسل لئلا يفروا، فسمع بهم خالد فمال بالناس إلى كاظمة، فسبقه هرمز إليها، وكان سيء المجاورة للعرب، فكلهم عليه حنقٌ، وكانوا يضربونه مثلاً في الخبث فيقولون: أكفر من هرمز.
وقدم خالد فنزل على غير ماء، فقال له أصحاب في ذلك: ما تفعل؟ فقال لهم: لعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين، فحطوا أثقالهم، وتقدم خالد إلى الفرس فلاقاهم، وأرسل الله سحابة فأإدرت وراء صف المسلمين فقويت قلوبهم، وخرج هرمز ودعا خالداً إلى البراز وأوطأ أصحابه على الغدر بخالد، فبرز إليه خالد ومشى نحوه راجلاً، ونزل هرمز أيضاً وتضاربا، فاحتضنه خالد، وحمل أصحاب هرمز، فما شغله ذلك عن قتله، وحمل القعقاع بن عمرو فأزاحهم، وانهزم أهل فارس وركبهم المسلمون، وسميت الوقعة ذات السلاسل، ونجا قباذ وأنوشجان، وأخذ خالد سلب هرمز، وكانت قلنسوته بمائة ألف لأنه كان قد تم شرفه في الفرس، وكانت هذه عادتهم، إذا تم شرف الإنسان تكون قلنسوته بمائة ألف. وبعث خالد بالفتح والأخماس إلى أبي بكر، وسار حتى نزل بموضع الجسر الأعظم بالبصرة، وبعث المثنى بن حارثة في آثارهم، وأرسل معقل بن مقرن إلى الأبلة ففتحها فجمع الأموال بها والسبي.
وهذا القول خلاف ما يعرفه أهل النقل لأن فتح الأبلة كان على يد عتبة ابن غزوان أيام عمر بن الخطاب سنة أربع عشرة.
وحاصر المثنى بن حارثة حصن المرأة ففتحه وأسلمت، ولم يعرض خالد وأصحابه إلى الفلاحين لأن أبا بكر أمرهم بذلك.

.ذكر وقعة الثني:

لما وصل كتاب هرمز إلى أردشير بخبر خالد أمده بقارن بن قريانس، فلما انتهى إلى المذار لقيه المنهزمون فاجتمعوا ورجعوا ومعهم قباذ وأنوشجان ونزلوا الثني، وهو النهر، وسار إليهم خالد فلقيهم واقتتلوا، فبرز قارن فقتله معقل بن الأعشى بن النباش، وقتل عاصم أنوشجان، وقتل عدي ابن حاتم قباذ، وكان شرف قارن قد انتهى. ولم يقاتل المسلمون بعده أحداً انتهى شرفه، وقتل من الفرس مقتلة عظيمة يبلغون ثلاثين ألفاً سوى من غرق ومنعت المياه المسلمين من طلبهم. وقسم الفيء وأنفذ الأخماس إلى المدينة وأعطى الأسلاب من سلبها، وكانت الغنيمة عظيمة، وسبى عيالات المقاتلة، وأخذ الجزية من الفلاحين وصاروا ذمةً. وكان في السبي أبو الحسن البصري، وكان نصرانياً، وأمر على الجند سعيد بن النعمان، وعلى الحرز سويد بن مقرن المزني وأمره بنزول الحفير، وأقام بتجسس الأخبار.

.ذكر وقعة الولجة:

ولما فرغ خالد من الثني وأتى الخبر أردشير بعث الأندرزعز، وكان فارساً من مولدي لسواد، وأرسل بهمن جاذويه في أثره في جيش، وحشر إلى الأندرزعز من بين الحيرة وكسكر ومن عرب الضاحية والدهاقين وعسكروا بالولجة. وسمع بهم خالد فسار إليهم من الثني فلقيهم بالولجة وكمن لهم فقاتلهم قتالاً شديداً أشد من الأول حتى ظن الفريقان أن الصبر قد أفرغ. واستبطأ خالد كمينه فخرجوا من ناحيتين، فانهزمت الأعاجم، وأخذ خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم فقتل منهم خلقاً كثيراً، ومضى الأندرزعز منهزماً فمات عطشاً، وأصاب خالد ابناً لجابر بن بجير وابناً لعبد الأسود من بكر بن وائل، وكانت وقعة الولجة في صفر، وبذل الأمان للفلاحين، فعادوا وصاروا ذمةً، وسبى ذراري المقاتلة ومن أعانهم.

.ذكر وقعة أليس وهو على الفرات:

لما أصاب خالد يوم الولجة ما أصاب من نصارى بكر بن وائل الذين أعانوا الفرس غضب لهم نصارى قومهم فكاتبوا الفرس واجتمعوا على أليس وعليهم عبد الأسود العجلي، وكان مسلمو بني عجل، منهم: عتيبة بن النهاس وسعيد بن مرة وفرات بن حيان ومذعور بن عدي والمثنى بن لاحق، أشد الناس على أولئك النصارى. وكتب أردشير إلى بهمن جاذويه، وهو بقشيناثا، يأمره بالقدوم على نصارى العرب بأليس، فقدم بهمن جاذويه إلى أردشير ليشاوره فيما يفعل فوجده مريضاً، فتوقف عليه، فاجتمع على جابان نصارى عجل وتيم اللات وضبيعة وجابر بن بجير وعرب الضاحية من أهل الحيرة.
وكان خالد لما بلغه تجمع نصارى بكر وغيرهم سار إليهم ولا يشعر بدنو جابان. فلما طلع جابان بأليس قالت العجم له: أنعاجلهم أم نغدي الناس ولا نريهم أنا نحفل بهم ثم نقاتلهم؟ فقال جابان: إن تركوكم فتهاونوا بهم. فعصوه وبسطوا الطعام، وانتهى خالد إليهم وحط الأثقال، فلما وضعت توجه إليهم وطلب مبارزة عبد الأسود وابن أبجر ومالك بن قيس، فبرز إليه مالك من بينهم، فقتله خالد وأعجل الأعاجم عن طعامهم. فقال لهم جابان: ألم اقل لكم والله ما دخلتني من مقدم جيش وحشة إلا هذا؟ وقال لهم: حيث لم تقدروا على الأكل فسموا الطعام فإن ظفرتم فأيسر هالكٍ وإن كانت لهم هلكوا بأكله. فلم يفعلوا، واقتتلوا قتالاً شديداً والمشركون يزيدهم ثبوتاً توقعهم قدوم بهمن جاذويه، فصابروا المسلمين، فقال خالد: اللهم إن هزمتهم فعلي أن لا أستبقي منهم من أقدر عليه حتى أجري من دمائهم نهرهم. فانهزمت فارس فنادى منادي خالد: الأسراء الأسراء إلا من امتنع فاقتلوه. فأقبل لهم المسلمون أسراء ووكل بهم من يضرب أعناقهم يوماً وليلةً. فقال له القعقاع وغيره: لو قتلت أهل الأرض لم تجر دماؤهم، فأرسل عليها الماء تبر يمينك؛ ففعل، وسمي نهر الدم؛ ووقف خالد على الطعام وقال للمسلمين: قد نفلتكموه، فتعشى به المسلمون، ودعل من لم الرقاق يقول: ما هذه الرقاع البيض! وبلغ عدد القتلى سبعين ألفاً، وكانت الوقعة في صفر. فلما فرغ من أليس سار إلى أمغيشيا، وقيل اسمها منيشيا، فأصابوا فيها ما لم يصيبوا مثله لأن أهلها أعجلهم المسلمون أن ينقلوا أموالهم وأثاثهم وكراعهم وغير ذلك، وأرسل إلى أبي بكر بالفتح ومبلغ الغنائم والسبي وأخرب أمغيشيا. فلما بلغ ذلك أبا بكر قال: عجز النساء أن يلدن مثل خالد.

.ذكر وقعة يوم فرات بادقلى وفتحه الحيرة:

ثم سار خالد من أمغيششيا إلى الحيرة وحمل الرحال والأثقال في السفن، فخرج مرزبان الحيرة، وهو الأزاذبه فعسكر عند الغريين وأرسل ابنه فقطع الماء عن السفن فبقيت على الأرض. فسار خالد في خيل نحو ابن الأزاذبه فلقيه على فرات بادقلى فضربه وقتله وقتل أصحابه وسار نحو الحيرة، فهرب منه الأزاذبه، وكان قد بلغه موت أردشير وقتل ابنه، فهرب بغير قتال، ونزل المسلمون عند الغريين، وتحصن أهل الحيرة فحصرهم في قصورهم. وكان ضرار بن الأزور محاصراً القصر الأبيض وفيه إياس بن قبيصة الطائي، وكان ضرار بن الخطاب محاصراً قصر الغريين وفيه عدي بن عدي المقتول، وكان ضرار بن مقرن المزني عاشر عشرة إخوة محاصراً قصر ابن مازن وفيه ابن أكال، وكان المثنى محاصراً قصر ابن بقيلة وفيه عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة، فدعوهم جميعاً وأجلوهم يوماً وليلة، فأبى أهل الحيرة، وقاتلهم المسلمون فافتتحوا الدور والديرات وأكثروا القتل. فنادى القسيسون والرهبان: يا أهل القصور ما يقتلنا غيركم! فنادى أهل القصور المسلمين: قد قبلنا واحدة من ثلاث، وهي: إما الإسلام أو الجزية أو المحاربة، فكفوا عنهم، وخرج إليهم إياس بن قبيصة وعمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث، وهو بقيلة، وإنما سمي بقيلة لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين، فقالوا: ما أنت إلا بقيلة خضراء، فأرسلوهم إلى خالد، فكان الذي يتكلم عنهم عمرو بن عبد المسيح، فقال له خالد: كم أتى عليك؟ قال: مئو سنين. قال: فما أعجب ما رأيت؟ قال: رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة تخرج المرأة من الحيرة فلا تتزود إلا رغيفاً. فتبسم خالد وقال لأهل الحيرة: ألم يبلغني أنكم خبثة خدعة، فما بالكم تتناولون حوائجكم بخرفٍ لا يدري من أين جاء؟ فأحب عمرو أن يريه من نفسه ما يعرف به عقله وصحة ما حدثه به، قال: وحقك إني لأعرف من أين جئت! قال: فمن أين خرجت؟ قال: من بطن أمي. قال: فأين تريد؟ قال: أمامي. قال: وما هو؟ قال: الآخرة. قال: فمن أين أقصى أثرك؟ قال: من صلب أبي. قال: ففيم أنت؟ قال: في ثيابي. قال: أتعقل؟ قال: إي والله وأقيد. قال خالد: إنما أسألك! قال: فأنا أجيبك. قال: أسلمٌ أنت أم حربٌ؟ قال: بل سلمٌ. قال: فما هذه الحصون؟ قال: بنيناها للسفيه نحبسه حتى ينهاه الحليم. قال خالد: قتلت أرضٌ جاهلها وقتل أرضاً عالمها، القوم أعلم بما فيهم.
وكان مع ابن بقيلة خادم معه كيس فيه سم، فأخذه خالد ونثره في يده وقال: لم تستصحب هذا؟ قال: خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت فكان الموت أحب إلي من مكروه أدخله على قومي. فقال خالد: إنها لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، وقال: باسم الله خير الأسماء، رب الأرض والسماء، الذي لا يضر مع اسمه داء، الرحمن الرحيم، وابتلع السم. فقال ابن بقيلة: والله لتبلغن ما اردتم ما دام أحد منكم هكذا.
وأبى خالد أن يصالحهم إلا على تسليم كرامة بنت عبد المسيح إلى شويل، فأبوا، فقالت لهم: هونوا عليهم وأسلموني فإني سأفتدي. ففعلوا، فأخذها شويل، فافتدت منه بألف درهم، فلامه الناس، فقال: ما كانت أظن أن عدداً أكثر من هذا.
وكان سبب تسليمها إليه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لما ذكر استيلاء أمته على ملك فارس والحيرة سأله شويل أن يعطى كرامة ابنة عبد المسيح، وكان رآها شابة فمال إليها، فوعده النبي، صلى الله عليه وسلم، ذلك، فلما فتحت الحيرة طلبها وشهد له شهود بوعد النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يسلمها إليه، فسلمها إليه خالد.
وصالحهم على مائة ألف وتسعين ألفاً، وقيل: على مائتي ألف وتسعين ألفاً، وأهدوا له هدايا. فبعث بالفتح والهدايا إلى أبي بكر، فقبلها أبو بكر من الجزاء وكتب إلى خالد أن يأخذ منهم بقية الجزية ويحسب لهم الهدية.
وكان فتح الحيرة في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة، وكتب لهم خالد كتاباً، فلما كفر أهل السواد بعد موت أبي بكر ضيعوا الكتاب، فلما افتتحه المثنى ثانية عاد بشرط آخر، فلما عادوا كفروا، وافتتحها سعد بن أبي وقاص ووضع عليهم أربعمائة ألف.
قال خالد: ما لقيت قوماً كأهل فارس، وما لقيت من أهل فارس كأهل أليس.

.ذكر ما بعد الحيرة:

قيل: كان الدهاقين يتربصون بخالد وينظرون ما يصنع أهل الحيرة، فلما صالحهم واستقاموا له أتته الدهاقين من تلك النواحي، أتاه دهقان فرات سريا وصلوبا ابن نسطونا ونسطونا، فصالحوه على ما بين الفلاليج إلى هرمزجرد على ألفي ألف، وقيل: ألف ألف سوى ما كان لآل كسرى، وبعث خالد عماله ومسالحه، وبعث ضرار بن الأزور وضرار بن الخطاب والقعقاع بن عمرو والمثنى بن حارث وعتيبة بن النهاس فنزلوا على السيب، وهم كانوا أمراء الثغور مع خالد، وأمرهم بالغارة، فمخروا ما وراء ذلك إلى شاطىء دجلة، وكتب خالد إلى أهل فارس يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية فإن أجابوا وإلا حاربهم، فكان العجم مختلفين بموت أردشير إلا أنهم قد أنزلوا بهمن جاذويه بهرسير ومعه غيره كأنه مقدمة لهم، وجبى خالد الخراج في خمسين ليلة وأعطاه المسلمين، ولم يبق لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمرٌ لاختلافهم بموت أردشير إلا أنهم مجمعون على حرب خالد وخالد مقيم بالحيرة يصعد ويصوب سنةً قبل خروجه إلى الشام، والفرس يخلعون ويملكون ليس إلا الدفع عن بهرسير، وذلك أن شيرى بن كسرى قتل كل من كان يناسبه إلى أنوشروان، وقتل أهل فارس بعده وبعد أردشير ابنه من كان بين أنوشروان وبين بهرام جور، فبقوا لم يقدروا على من يملكونه ممن يجتمعون عليه. فلما وصلهم كتب خالد تكلم نساء آل كسرى فولي الفرخزاد بن النبذوان إلى أن يجتمع آل كسرى على من يملكونه إن وجدوه.
ووصل جرير بن عبد الله البجلي إلى خالد بعد فتح الحيرة، وكان سبب وصوله إليه أنه كان مع خالد بن سعيد بن العاص بالشام فاستأذنه في المصير إلى أبي بكر ليكلمه في قومه ليجمعهم له، وكانوا أوزاعاً متفرقين في العرب، فأذن له، فقدم على أبي بكر فذكر له ذلك وأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعده به وشهد له شهود، فغضب أبو بكر وقال: ترى شغلنا وما نحن فيه بغوث المسلمي ممن بإزائهم من فارس والروم ثم أنت تكلفني ما لا يغني! وأمره بالمسير إلى خالد بن الوليد، فسار حتى قدم عليه بعد فتح الحيرة ولم يشهد شيئاً مما قبلها بالعراق ولا شيئاً مما كان خالد فيه من قتل أهل الردة.
عتيبة بالتاء المثناة من فوقها، وبالياء المثناة من تحتها، وبالباء الموحدة.

.ذكر فتح الأنبار:

ثم سار خالد على تعبيته التي خرج فيها من الحيرة إلى الأنبار، وإنما سمي الأنبار لأن أهراء الطعام كانت بها أنابير، وعلى مقدمته الأقرع بن حابس. فلما بلغها أطاف بها وأنشب القتال، وكان قليل الصبر عنه، وتقدم إلى رماته وأوصاهم أن يقصدوا عيونهم فرموا رشقاً واحداً ثم تابعوا فأصابوا ألف عين، فسميت تلك الوقعة ذات العيون. وكان على من بها من الجند شيرزاد صاحب ساباط، فلما رأى ذلك أرسل يطلب الصلح على أمر لم يرضه خالد، فرد رسله ونحر من إبل العسكر كل ضعيف وألقاه في خندقهم، ثم عبره، فاجتمع المسلمون والكفار في الخندق، فأرسل شيرزاد إلى خالد وبذل له ما أراد، فصالحه على أن يلحقه بمأمنه في جريدة ليس معهم من متاع شيء، وخرج شيرزاد إلى بهمن جاذويه، ثم صالح خالد من حول الأنبار وأهل كلواذى.

.ذكر فتح عين التمر:

ولما فرغ خالد من الأنبار استخلف عليها الزبرقان بن بدر وسار إلى عين التمر وبها مهران بن بهرام جوبين، في جمع عظيم من العجم، وعقة ابن أبي عقة في جمع عظيم من العرب منا النمر وتغلب وإياد وغيرهم، فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب فدعنا وخالداً. قال: صدقت فأنتم أعلم بقتال العرب، وإنكم لمثلنا في قتال العجم. فخدعه واتقى به وقال: إن احتجتم إلينا أعناكم. فلامه أصحابه من الفرس على هذا القول، فقال لهم: إنه قد جاءكم من قتل ملوككم أمر عظيم وفل حدكم فاتقيته بهم، فإن كانت لكم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء. فاعرفوا له، وسار عقة إلى خالد فالتقوا، فحمل خالد بنفسه على عقة وهو يقيم صفوفه، فاحتضنه وأخذه أسيراً وانهزم عسكره من غير قتال فأسر أكثرهم.
فلما بلغ الخبر مهران هرب في جنده وتركوا الحصن، فلما انتهى المنهزمون إليه تحصنوا به، فنازلهم خالد، فطلبوا منه الأمان، فأبى، فنزلوا على حكمه، فأخذهم أسرى وقتل عقة ثم قتلهم أجمعين وسبى كل من في الحصن وغنم ما فيه، ووجد في بيعتهم أربعين غلاماً يتعلمون الإنجيل، فأخذهم فقسمهم في أهل البلاء، منهم: سيرين أبو محمد، ونصير أبو موسى، وحمران مولى عثمان. وأرسل إلى أبي بكر بالخبر والخمس.
وفي عين التمر قتل عمير بن رئاب السهمي، وكان من مهاجرة الحبشة، ومات بها بشير بن سعد الأنصاري والد النعمان فدفن بها إلى جانب عمير.

.ذكر خبر دومة الجندل:

ولما فرغ خالد من عين التمر أتاه كتاب عياض بن غنم يستمده على من بإزائه من المشركين، فسار خالد إليه، فكان بإزائه بهراء وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم، وكانت دومة على رئيسين: أكيدر بن عبد الملك والجودي ابن ربيعة، فأما أكيدر فلم ير قتال خالد وأشار بصلحه خوفاً، فلم يقبلوا منه، فخرج عنهم، وسمع خالد بمسيره فأرسل إلى طريقه عاصم بن عمرو معارضاً له فأخذه أسيراً فقتله وأخذ ما كان معه وسار حتى نزل على أهل دومة الجندل فجعلها بينه وبين عياض. فلما اطمأن خالد خرج إليه الجودي في جمع ممن عنده من العرب لقتاله وأخرج طائفة أخرى إلى عياض، فقاتلهم عياض فهزمهم، فهزم خالد من يليه، وأخذ الجودي أسيراً وانهزموا إلى الحصن، فلما امتلأ أغلقوا الباب دون أصحابهم فبقوا حوله، فأخذهم خالد فقتلهم حتى سد باب الحصن، وقتل الجودي وقتل الأسرى إلا أسرى كلب، فإن بني تميم قالوا لخالد: قد أمناهم، وكانوا حلفاءهم، فتركهم. ثم أخذ الحصن قهراً فقتل المقاتلة وسبى الذرية والسرح فباعهم، واشترى خالد ابنة الجودي، وكانت موصوفةً.
وأقام خالد بدومة الجندل، فطمع الأعاجم، وكاتبهم عرب الجزيرة غضباً لعقة، فخرج زرمهر وروزبه يريدان الأنبار واتعدا حصيداً والخنافس، فسمع القعقاع بن عمرو، وهو خليفة خالد على الحيرة، فأرسل أعبد بن فدكي وأمره بالحصيد وأرسل عروة بن الجعد البارقي إلى الخنافس، فخرجا فحالا بينهما وبين الريف، ورجع خالد إلى الحيرة، فبلغه ذلك، وكان عازماً على مصادمة أهل المدائن، فمنعه من ذلك كراهية مخالفة أبي بكر، فعجل القعقاع بن عمرو وأبا ليلى بن فدكي إلى روزبه وزرمهر فسبقاه إلى عين القمر، ووصل إلى خالد كتاب امرىء القيس الكلبي أن الهذيل بن عمران قد عسكر بالمصيخ، ونزل ربيعة بن بجير بالثني وبالبشر غضباً لعقة يريدان زرمهر وروزبه، فخرج خالج وسار إلى القعقاع وأبي ليلى فاجتمع بهما بالعين، فبعث القعقاع إلى حصيد، وبعث أبا ليلى إلى الخنافس.

.ذكر وقعة حصيد والخنافس:

فسار القعقاع نحو حصيد، وقد اجتمع بها روزبه وزرمهر، فالتقوا بحصيد، فقتل من العجم مقتلة عظيمة، فقتل القعقاع زرمهر، وقتل عصمة ابن عبد الله أحد بني الحارث بن طريف الضبي روزبه، وكان عصمة من البررة، وهم كل فخذ هاجرت بأسرها، والخيرة كل قوم هاجروا من بطن، وغنم المسلمون ما في حصيد وانهزمت الأعاجم إلى الخنافس، وسار أبو ليلى بمن معه إلى الخنافس وبها المهبوذان على العسكر، فلما أحس المهبوذان بهم هرب إلى المصيخ إلى الهذيل بن عمران.

.ذكر وقعة مصيخ بني البرشاء:

ولما انتهى الخبر إلى خالد بمصاب أهل الحصيد وهرب أهل الخنافس كتب إلى القعقاع وأبي ليلى وأعبد وعروة وواعدهم ليلة وساعة يجتمعون فيها إلى المصيخ، وخرج خالد من العين قاصداً إليهم. فلما كان تلك الساعة من ليلة الموعد اتفقوا جميعاً بالمصيخ فأغاروا على الهذيل ومن معه وهم نائمون من ثلاثة أوجٍ فقتلوهم، وأفلت الهذيل في ناس قليل وكثر فيهم القتل، وكان مع الهذيل عبد العزى بن أبي رهم أخو أوس مناة ولبيد بن جرير، وكانا قد أسلما ومعهما كتاب أبي بكر بإسلامهما، فقتلا في المعركة، فبلغ ذلك أبا بكر وقول عبد العزى:
أقول إذ طرق الصباح بغارةٍ ** سبحانك اللهم رب محمد

سبحان ربي لا إله غيره ** رب البلاد ورب من يتورد

فواداهما وأوصى بأولادهما، فكان عمر يعتد بقتلهما وقتل مالك بن نويرة على خالد، فيقول أبو بكر: كذلك يلقى من نازل أهل الشرك. وقد كان حرقوص بن النعمان بن النمر قد نصحهم فلم يقبلوا منه، فجلس مع زوجته وأولاده يشربون، فقال لهم: اشربوا شراب مودعٍ، هذا خالد بالعين وجنوده بالحصيد؛ ثم قال:
ألا سقياني قبل خيل أبي بكر ** لعل منايانا قريبٌ وما ندري

فضرب رأسه، فإذا هو في جفنة فيها الخمر، وقتلوا أولاده وأخذوا بناته.
وقيل: إن قتل حرقوص وهذه الوقعة ووقعة الثني كان في مسير خالد ابن الوليد من العراق إلى الشام، وسيذكر إن شاء الله تعالى.

.ذكر وقعة الثني والزميل:

وكان ربيعة بن بجير التغلبي بالثني والبشر، وهو الزميل، وهما شرقي الرصافة، قد خرج غضباً لعقة وواعد روزبه وزرمهر والهذيل، ولما أصاب خالد أهل المصيخ واعد القعقاع وأبا ليلى ليلة، وأمرهما بالمسير ليغيروا عليهم، فسار خالد من المصيخ، فاجتمع هو وأصحابه بالثني فبيتهم من ثلاثة أوجهٍ كما فعل بأهل المصيخ وجردوا فيهم السيوف، فلم يفلت منهم مخبر، وغنم وسبى وبعث بالخبر والخمس مع النعمان بن عوف إلى أبي بكر، فاشترى علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، بنت ربيعة بن بجير التغلبي، فاتخذها فولدت له عمر ورقية.
ولما انهزم الهذيل بالمصيخ لحق بعتاب بن فلان، وهو بالبشر، في عسكر ضخم، فبينهم خالد بغارة شعواء من ثلاثة أوجهٍ قبل أن يصل إليهم خبر ربيعة، فقتل منهم مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها وقسم الغنائم، وبعث الخمس إلى أبي بكر، وسار خالد من البشر إلى الرضاب، وبها هلال بن عقة، فتفرق عنه أصحابه، وسار هلال عنها فلم يلق خالد بها كيداً.

.ذكر وقعة الفراض:

ثم سار خالد من الرضاب إلى الفراض، وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة، وأفطر بها رمضان لاتصال الغزوات، وحميت الروم واستعانوا بمنم يليهم من مسالح الفرس فأعانوهم، واجتمع معهم تغلب وإياد والنمر وساروا إلى خالد. فلما بلغوا الفرات قالوا له: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم. قال خالد: اعبروا. قالوا له: تنح عن طريقنا حتى نعبر. قال: لا أفعل، ولكن اعبروا أسفل منا وذلك للنصف من ذي القعدة سنة ثنتي عشرة فعبروا أسفل من خالد، وعظم في أعينهم، وقالت الروم: امتازوا حتى نعرف اليوم من يثبت ممن يولي. ففعلوا، فاقتتلوا قتالاً عظيماً وانهزمت الروم ومن معهم، وأمر خالد المسلمين أن لا يرفعوا عنهم، فقتل في المعركة وفي الطلب مائة ألف، وأقام خالد على الفراض عشراً، ثم أذن بالرجوع إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم، وجعل شجر بن الأعز على الساقة، وأظهر خالد أنه في الساقة.

.ذكر حجة خالد:

ثم خرج خالد حاجاً من الفراض سراً ومعه عدة أصحابه يعسف البلاد، فأتى مكة وحج ورجع، فما توافى جنده بالخبر حتى وافاهم مع صاحب الساقة فقدما معاً وخالد وأصحابه محلقون، ولم يعلم بحجة إلا من أعلمه به، ولم يعلم أبو بكر بذلك إلا بعد رجوعه، فعتب عليه، وكانت عقوبته إياه أن صرفه إلى الشام من العراق ممداً جموع المسلمين باليرموك، وكان أهل العراق أيام علي إذا بلغهم عن معاوية شيء يقولون: نحن أصحاب ذات السلاسل، ويسمون ما بينها وبين الفراض ولا يذكرون ما بعد الفراض احتقاراً للذي كان بعدها.
وأغار خالد بن الوليد على سوق بغداد ووجه المثنى فأغار على سوق فيها جمعٌ لقضاعة وبكر، وأغار أيضاً على مسكن وقطريل وتل عقرقوف وبادوريا؛ قال الشاعر:
وللمثنيى بالعال معركةٌ ** شاهدها من قبيله بشر

كتيبةٌ أفزعت بوقعتها ** كسرى وكاد الإيوان ينفطر

وشجع المسلمين إذ حذروا ** وفي صروف التجارب العبر

سهل نهج السبيل فافترقوا ** آثاره والأمور تقتفر

يعني بالعال الأنبار ومسكن وقطربل وبادوريا.
وفيها تزوج عمر عاتكة بنت زيد. وفيها مات أبو العاص بن الربيع في ذي الحجة وأوصى إلى الزبير، وتزوج علي، رضي الله عنه، ابنته أمامة، وأمها زينب نبت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفيها اشترى عمر أسلم مولاه في قول. وحج بالناس هذه السنة أبو بكر، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، وقيل: حج بالناس عمر بن الخطاب أو عبد الرحمن بن عوف. وفيها مات أبو مرثد الغنوي، وهو بدري، وكان ابنه مرثد بن أبي مرثد قد قتل بالرجيع، وهو بدري أيضاً. ثم دخلت: